أعتقد أن بمقدوري الآن الاستراحة من الحديث عن الأزمة السياسية الأميركية لأتحدث عن المجريات التي تدور في أماكن أخرى. فما الخطب في البرازيل؟ في الحقيقة، لن أتحدث عن الانتخابات الأخيرة، التي اختار خلالها البرازيليون شخصاً يبدو ذا توجهات يمينية، ورغم أنني قلق مثل الجميع، لكن ليست لدي دراية على الإطلاق بالسياسة البرازيلية. ومن جانب آخر، كانت خلفية تلك الانتخابات هي الأزمة الاقتصادية الطاحنة في البرازيل عام 2015 – 2016: فالدولة التي كانت في مسار نمو صعودي، والتي بدا أنها نفضت عن عاتقها ميراث زعزعة الاستقرار، عانت من ركود شديد، وتعاني من ضعف شديد في التعافي الاقتصادي، وأفترض أن لدي بعض الدراية بشأن الاقتصاد الكلي. فماذا حدث؟
من المفاجئ أنه لا يكاد يكون هناك نقاش دولي بشأن التجربة البرازيلية، على رغم من أنها تجربة مريرة، والبرازيل اقتصاد كبير جداً، إذ أن إجمالي ناتجها المحلي بالقيمة التعادلية مع القوة الشرائية يناهز 10 أضعاف اقتصاد اليونان. وربما أننا جميعاً منشغلون بالأزمة السياسية في الغرب، لاسيما الإدارة الأميركية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وغيرها. وعلى أية حال، فقد كنت أحاول تجميع قصة الأزمة البرازيلية، وأعي تماماً أنني ربما فوّت بعض الجوانب المهمة.
وأقدم لكم في السطور التالية كيف تبدو القصة بالنسبة لي: يبدو أن البرازيل قد تعرضت لعاصفة قوية من سوء الحظ وسوء السياسات، من جوانب ثلاثة رئيسية. الجانب الأول: تردي البيئة العالمية بشدة، مع انخفاض أسعار صادرات السلع التي لا تزال محورية للاقتصاد البرازيلي. ثانياً: تراجع إنفاق شركات القطاع الخاص المحلية أيضاً، وربما يرجع ذلك إلى تركات الديون المفرطة. وأخيراً: السياسات، فبدلاً من محاربة تراجع النمو، تفاقم هذا التراجع، من خلال تقشف مالي وتشديد نقدي حتى على رغم من اتجاه الاقتصاد في مسار نزولي.
وربما أن أول شيء نقوله عن أزمة البرازيل إنها لم تكن أزمة! فخلال العقود القليلة الماضية، اعتاد أولئك الذين يتابعون عن كثب بيانات الاقتصاد الكلي الدولية على أزمات «التوقف المفاجئ» التي يدير فيها المستثمرون أظهرهم بغتة لدولة كانوا يفضلون الاستثمار فيها بشدة، وإن لم يكن بحكمة. وقد كانت هذه هي قصة الأزمة المكسيكية في 1994 – 1995 والأزمات الآسيوية من 1997 إلى 1999، وأزمة دول جنوب أوروبا بعد عام 2009. وهذا ما يبدو أننا نشاهده الآن في تركيا والأرجنتين.
ونعلم كيف تجري الأمور في هذه الحالة: فالدولة المتضررة ترى عملتها تتراجع (وفي حالة الدول التي تبنت اليورو، ترتفع أسعار الفائدة لديها). ومن الطبيعي أن تراجع قيمة العملة يعزز الاقتصاد، وذلك بجعل المنتجات أكثر تنافسية في الأسواق العالمية. لكن الدول التي يحدث فيها توقف مفاجئ للاستثمار الأجنبي لديها ديون طائلة بالعملات الأجنبية، لذا، فإن تراجع قيمة العملة يعصف بالموازنات، مسبباً تراجعاً شديداً في الطلب المحلي. وعندئذ يكون أمام صنّاع السياسات قليل من الخيارات الجيدة، ذلك أن رفع أسعار الفائدة بهدف زيادة قيمة العملة لن يفضي إلا إلى الإضرار بالطلب من اتجاه آخر.
لكن برغم أن المرء قد يزعم أن البرازيل لديها حالة مماثلة، فتراجع إجمالي ناتجها المحلي لكل نسمة بنسبة 9 في المئة يُقارن بأزمات التوقف المفاجئ في الماضي، فإن الأمر ليس كذلك، إذ يتضح أن البرازيل ليست لديها ديوناً كثيرة مقومة بالعملة الأجنبية، وتأثيرات العملة على ميزانيتها لا يبدو أنه يُشكل جزءاً مهماً من القصة. فماذا حدث إذن؟
أولاً وقبل كل شيء، اتخذت البيئة الاقتصادية العالمية منعطفاً كبيراً نحو الأسوأ. وفي حين حققت البرازيل تنوعاً بدرجة ما في أنشطة التصنيع، لكنها لا تزال تعتمد اعتماداً شديداً على صادرات السلع، التي تراجعت أسعارها. لذا، تضرر التبادل التجاري للبرازيل بشكل كبير، مع تراجع نسبة أسعار الصادرات إلى أسعار الواردات. وعلى رغم من أن ما حدث كان سيئاً في كل الأحوال، لكن ما زاده سوءاً أنه تزامن مع تراجع حاد في إنفاق المستهلكين محلياً. ويشير الأكاديمي وأستاذ المالية العامة «عاطف ميان» من جامعة برينستون، إلى أن ذلك يرجع إلى ارتفاع معدلات ديون الأسر خلال الأعوام القليلة السابقة، بالنظر إلى أن البرازيل شهدت انكماشاً في معدلات الدين يشبه ذلك الانكماش الذي واجهته الدول المتقدمة في عام 2008، بدرجة أكبر من تشابهه مع أزمة الأسواق الناشئة التقليدية.
وما فاقم أزمة الاقتصاد البرازيلي كانت الطريقة التي ردت بها الحكومة على تلك الصدمات، إذ أدت سياساتها المالية والنقدية إلى تدهور الأوضاع. وعلى الصعيد المالي، تعاني البرازيل من مشكلات طويلة الأجل تتعلق بانعدام القدرة على سداد الديون. وقد كانت تقتضي تلك المشكلات حلولاً طويلة الأجل، لكن ما حدث بدلاً من ذلك أن حكومة «ديلما روسيف»، قررت فرض تخفيضات شديدة في الإنفاق في خضم التراجع. وعلاوة على ذلك، تحولت السياسة النقدية إلى سياسة انكماشية بصورة حادة، مع الزيادة الكبيرة في أسعار الفائدة. ويالها من قصة جديرة بالاهتمام وتدعو للأسى في الوقت ذاته، فهذه التركيبة من سوء الحظ وسوء السياسات لعبت بالتأكيد دوراً في الكارثة الاقتصادية اللاحقة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
من المفاجئ أنه لا يكاد يكون هناك نقاش دولي بشأن التجربة البرازيلية، على رغم من أنها تجربة مريرة، والبرازيل اقتصاد كبير جداً، إذ أن إجمالي ناتجها المحلي بالقيمة التعادلية مع القوة الشرائية يناهز 10 أضعاف اقتصاد اليونان. وربما أننا جميعاً منشغلون بالأزمة السياسية في الغرب، لاسيما الإدارة الأميركية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وغيرها. وعلى أية حال، فقد كنت أحاول تجميع قصة الأزمة البرازيلية، وأعي تماماً أنني ربما فوّت بعض الجوانب المهمة.
وأقدم لكم في السطور التالية كيف تبدو القصة بالنسبة لي: يبدو أن البرازيل قد تعرضت لعاصفة قوية من سوء الحظ وسوء السياسات، من جوانب ثلاثة رئيسية. الجانب الأول: تردي البيئة العالمية بشدة، مع انخفاض أسعار صادرات السلع التي لا تزال محورية للاقتصاد البرازيلي. ثانياً: تراجع إنفاق شركات القطاع الخاص المحلية أيضاً، وربما يرجع ذلك إلى تركات الديون المفرطة. وأخيراً: السياسات، فبدلاً من محاربة تراجع النمو، تفاقم هذا التراجع، من خلال تقشف مالي وتشديد نقدي حتى على رغم من اتجاه الاقتصاد في مسار نزولي.
وربما أن أول شيء نقوله عن أزمة البرازيل إنها لم تكن أزمة! فخلال العقود القليلة الماضية، اعتاد أولئك الذين يتابعون عن كثب بيانات الاقتصاد الكلي الدولية على أزمات «التوقف المفاجئ» التي يدير فيها المستثمرون أظهرهم بغتة لدولة كانوا يفضلون الاستثمار فيها بشدة، وإن لم يكن بحكمة. وقد كانت هذه هي قصة الأزمة المكسيكية في 1994 – 1995 والأزمات الآسيوية من 1997 إلى 1999، وأزمة دول جنوب أوروبا بعد عام 2009. وهذا ما يبدو أننا نشاهده الآن في تركيا والأرجنتين.
ونعلم كيف تجري الأمور في هذه الحالة: فالدولة المتضررة ترى عملتها تتراجع (وفي حالة الدول التي تبنت اليورو، ترتفع أسعار الفائدة لديها). ومن الطبيعي أن تراجع قيمة العملة يعزز الاقتصاد، وذلك بجعل المنتجات أكثر تنافسية في الأسواق العالمية. لكن الدول التي يحدث فيها توقف مفاجئ للاستثمار الأجنبي لديها ديون طائلة بالعملات الأجنبية، لذا، فإن تراجع قيمة العملة يعصف بالموازنات، مسبباً تراجعاً شديداً في الطلب المحلي. وعندئذ يكون أمام صنّاع السياسات قليل من الخيارات الجيدة، ذلك أن رفع أسعار الفائدة بهدف زيادة قيمة العملة لن يفضي إلا إلى الإضرار بالطلب من اتجاه آخر.
لكن برغم أن المرء قد يزعم أن البرازيل لديها حالة مماثلة، فتراجع إجمالي ناتجها المحلي لكل نسمة بنسبة 9 في المئة يُقارن بأزمات التوقف المفاجئ في الماضي، فإن الأمر ليس كذلك، إذ يتضح أن البرازيل ليست لديها ديوناً كثيرة مقومة بالعملة الأجنبية، وتأثيرات العملة على ميزانيتها لا يبدو أنه يُشكل جزءاً مهماً من القصة. فماذا حدث إذن؟
أولاً وقبل كل شيء، اتخذت البيئة الاقتصادية العالمية منعطفاً كبيراً نحو الأسوأ. وفي حين حققت البرازيل تنوعاً بدرجة ما في أنشطة التصنيع، لكنها لا تزال تعتمد اعتماداً شديداً على صادرات السلع، التي تراجعت أسعارها. لذا، تضرر التبادل التجاري للبرازيل بشكل كبير، مع تراجع نسبة أسعار الصادرات إلى أسعار الواردات. وعلى رغم من أن ما حدث كان سيئاً في كل الأحوال، لكن ما زاده سوءاً أنه تزامن مع تراجع حاد في إنفاق المستهلكين محلياً. ويشير الأكاديمي وأستاذ المالية العامة «عاطف ميان» من جامعة برينستون، إلى أن ذلك يرجع إلى ارتفاع معدلات ديون الأسر خلال الأعوام القليلة السابقة، بالنظر إلى أن البرازيل شهدت انكماشاً في معدلات الدين يشبه ذلك الانكماش الذي واجهته الدول المتقدمة في عام 2008، بدرجة أكبر من تشابهه مع أزمة الأسواق الناشئة التقليدية.
وما فاقم أزمة الاقتصاد البرازيلي كانت الطريقة التي ردت بها الحكومة على تلك الصدمات، إذ أدت سياساتها المالية والنقدية إلى تدهور الأوضاع. وعلى الصعيد المالي، تعاني البرازيل من مشكلات طويلة الأجل تتعلق بانعدام القدرة على سداد الديون. وقد كانت تقتضي تلك المشكلات حلولاً طويلة الأجل، لكن ما حدث بدلاً من ذلك أن حكومة «ديلما روسيف»، قررت فرض تخفيضات شديدة في الإنفاق في خضم التراجع. وعلاوة على ذلك، تحولت السياسة النقدية إلى سياسة انكماشية بصورة حادة، مع الزيادة الكبيرة في أسعار الفائدة. ويالها من قصة جديرة بالاهتمام وتدعو للأسى في الوقت ذاته، فهذه التركيبة من سوء الحظ وسوء السياسات لعبت بالتأكيد دوراً في الكارثة الاقتصادية اللاحقة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»